اتجاه البدو الرحل نحو الاستقرار
في المناطق القاحلة عندما لم يكن لدى البشر وصول سهل إلى الأراضي الصالحة للزراعة، شرعوا في تربية الحيوانات فاستغلوا الأراضي كمراع .وشيئًا فشيئًا زاد عدد قطعانهم، واختاروا أن يكونوا رعاة بدلاً من مزارعين. لكن هذا لا يعني أن البدو أصبحوا مكتفين ذاتياً، بل كانوا دائماً بحاجة إلى الزراعة بطريقة أو بأخرى.
البداوة هي أسلوب حياة محدد يُمارس في الحزام الجاف للعالم القديم وهو نمط اجتماعي بيئي للثقافة،والذي تخضع عملياته الداخلية وعوامله الحاكمة ومظهره الخارجي بشكل أساسي إلى مبدئ أساسي هو: حماية البقاء.
ضِمن الحزام الجاف للعالم القديم تمكنت البداوة من الظهور مرة أخرى بأشكال جديدة ومبتكرة في جميع الأوقات والأماكن لكن ظلت منفصلة بشكل أساسي عن المراحل التطورية للحياة المستقرة.يميل مصطلح البداوة نحو العيش في الطبيعة، بدلاً من السيطرة عليها واستغلالها؛ وعلى هذا النحو فهي تمثل أسلوب معيشة خاص بالمنطقة يتم فيه الاستخدام الأمثل للإمكانيات البيئية والتعامل مع الظروف الاجتماعية والسياسية من أجل البقاء. وبالتالي فهي عنصر أساسي ومستقل في التطور الثقافي والاجتماعي لهذه المنطقة الجافة.
في السهوب يتنقل البدو ألاف الكيلومترات خلال السنة بحثا عن الكلأ لماشيتهم، حيث يتركون موطنهم الشتوي في أوائل الربيع باتجاه السهول المزروعة أو التلال حسب البيئة المحيطة، وحين يشارف الصيف على الانتهاء يجبرهم شح الأرض على العودة غالبا إلى موطنهم الشتوي والذي عادة ما يكون الصحراء، اميلن أن تجود الأرض الملقحة بأمطار الخريف بما يلبي غذاء ماشيتهم وكذا معيشتهم من لحوم وألبان وجلود .بينما يقضون باقي حاجياتهم المعيشية من المدن القريبة من مراعيهم معتمدين في ذلك على مكاسبهم من بيع الماشية في الأسواق المجاورة.
تساهم أنماط الحياة البدوية بما يصل إلى 80 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي في البلدان الأفريقية، ولها أهمية أكبر بكثير في الاقتصادات الوطنية.ووفقا إلى دراسة علمية نشرتها المبادرة العالمية للرعي المستدام بمساهمة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).يقول جوناثان ديفيز، المؤلف المشارك للدراسة ومنسق المبادرة العالمية للرعي المستدام: "يمكن أن يكون الرعي أكثر إنتاجية بما يصل إلى عشر مرات من تربية الماشية التجارية في ظل نفس الظروف".
ووجدت الدراسة أن الرعي المتنقل - أو البداوة - في العديد من البلدان قد يكون نظام استخدام الأراضي الأكثر جدوى من الناحية الاقتصادية للأراضي الجافة في العالم مع المساهمة في الحفاظ على التنوع البيولوجي والتخفيف من آثار تغير المناخ.
في منغوليا مثلا، تمثل الثروة الحيوانية الرعوية ثلث الناتج المحلي الإجمالي وهي ثاني أكبر مصدر لعائدات التصدير حيث تمثل 32%، وفي إثيوبيا تعد صناعة الجلود ثاني أكبر مصدر للعملة الأجنبية بعد القهوة.
في عام 1998 وحده تم تصدير الجلود والسلع الجلدية بقيمة 41 مليون دولار أمريكي، بشكل أساسي إلى أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
يقول ريتشارد هاتفيلد الذي شارك في إعداد الدراسة مع ديفيز: "تظهردراستنا أن الاستثمارات في الرعي المستدام للبدو الرحل لن تساعد في التغلب على فقرهم فحسب، بل ستعود أيضًا بالنفع على الاقتصادات الوطنية".
وعلى الرغم من هذه الحقائق لا يُعرف سوى القليل جدًا عن الفوائد الاقتصادية للرعي. ونتيجة لذلك غالبًا ما يُنظر إلى البداوة على أنها أسلوب حياة تقليدي ومتخلف سيختفي قريبًا. وقد أدت هذه المفاهيم الخاطئة إلى مثبطات قانونية واقتصادية واجتماعية وسياسية وحواجز أمام حركة الماشية، كما أدت إلى ترسيخ الفقر الرعوي.
يقول آد بارو من مكتب شرق أفريقيا التابع للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة: "الآن بعد أن أصبح لدينا دليل واضح على الأهمية الاقتصادية للرعي، فإننا ندعو الحكومات إلى إزالة الحواجز القائمة وتقديم حوافز للإدارة المستدامة للأراضي".
وقد لوحظ في السنوات الأخيرة تراجع بنية الحياة البدوية والاتجاه نحو الاستقرار بالمدن لعدة أسباب منهجية أهمها قساوة العيش وشح الأرض من جهة وكذا انحصار حرية التنقل والرعي بسبب بسط الدولة نفوذها على الأراضي وكذلك استغلال بعض المستثمرين الخواص لمساحات شاسعة في الزراعة، ضف إلى ذلك انتشار الأمية في صفوف أهل البداوة وبالتالي الرغبة في تعليم الصغار. خاصة مع تطور وسائل الاتصال والاحتكاك مع أهل المدن ويعزى تأخر الاستقرار إلى عامل العزلة بالأساس.